أسرار أركان الصلاة وآدابها2
 
الفصل الثاني
 
 

v     في وظائف الركوع وأسراره

الركوع:

 

فإذا وصلت فجدد على قلبك ذكر كبرياء الله تعالى وعظمته وخساسة كل ما سواه وتلاشيه فارفع يديك له، وقل: ( الله أكبر) مستجيراً في رفعك بعفو الله من عقابه، ومتبعاً سنة نبيه، ثم تستأنف له ذلاً وتواضعاً بركوعك، واجتهد في ترقيق قلبك، وتجديد خشوعك واستشعر ذلك وعزز مولاك واتضاعك وعلو ربك وتستعين على تقرير ذلك في قلبك بلسانك فتسبح ربك وتنزهه، وتشهد له بالعظمة والكبرياء وأنه أعظم من كل عظيم بقولك: (سبحان ربي العظيم  وبحمده) وتكرر ذلك على لسانك وقلبك لتؤكده بالتكرار، وتقرر في ذاتك بالتكرار وكلما أكثرت فيه، وازددت خضوعاً ردت عند مولاك رفعة.

 

ثم ترتفع من ركوعك راجياً أنه راحم ذلك ويؤكد الرجاء في قلبك بقولك: ( سمع الله لمن حمده). أي: أجاب الله لمن حمده وشكره.

 

ثم تردف ذلك بالشكر المتقاضي للمزيد فتقول: الحمد لله رب العالمين.

 

وفي ذلك غاية في الخضوع ومزيد التذلل إذا راعيت ذلك بالحقيقة.

 

وقد قال الصادق (ع): (لا يركع عبد لله تعالى ركوعاً على الحقيقة إلا زينه الله تعالى بنور بهائه وأظله في ظلال كبريائه وكسوة أصفائه، والركوع أول والسجود ثان، فمن أتى بمعنى الأول صلح للثاني. وفي الركوع أدب وفي السجود قرب ومن لا يحسن الأدب لا يصلح للقرب.

 

فاركع ركوع خاضع لله بقلبه، متذلل، وجل تحت سلطانه، خافض له بجوارحه خفض خائف، حزين على ما يفوته من فوائد الراكعين.

 

وحكي أن ربيع بن خثيم كان يسهر بالليل إلى الفجر في ركوع واحد فإذا أصبح تزفر وقال: ( أوه، سبق المخلصون وقطع بنا). واستوف ركوعك باستواء ظهرك، وانحط عن همتك في القيام بخدمته إلا بعونه وقر بالقلب عن وساوس الشيطان وخدائعه ومكائده، فإن الله تعالى يرفع عباده بقدر تواضعهم له، ويهديهم إلى أصول التواضع والخضوع والخشوع بقدر اطلاع عظمته على سرائرهم.

 

السادس: في وظائف السجود وأسراره

 

السجود وهو أعظم مراتب الخضوع وأحسن درجات الخشوع وأعلى مراتب الاستكانة وأحق المراتب باستيجاب القرب إلى الله تعالى وتلقي أنوار رحمته، ومعاطف كرمه كما نبه عليه الكتاب الكريم في أسره لنبيه (ص)، أن يسجد ووعد على ذلك بأن بقرب.

 

فإذا أردت السجود فاستحضر عظمة الله تعالى زيادة على ما حضر حالة الركوع، وكبره رافعاً وأنت قائم إهوﹺ إلى السجود ومكن أعز أعضائك وهو الوجه من أذل الأشياء وهو التراب فإن أمكنك أن لا تجعل بينهما حائلاً فتسجد على الأرض فافعل فإنه أجلب للخشوع وأدل على الذل والخضوع.

 

وهذا هو السر في منع الشريعة من السجود على ما يأكله الآدميون ويلبسونه لأنه من متاع الدنيا وأهلها الذين اغتروا بغرورها وركنوا إلى زخرفها واطمأنوا إليها فاسلمتهم إلى المهالك، أحوج ما كانوا إليها.

 

وإذا وضعت نفسك موضع الذل فاعلم أنك وضعتها موضعها، ورددت الفرع إلى أصله، فإنك من التراب خلقت وإليه رددت، ثم تخرج منها مره أخرى.

 

فاحضر في بالك نقلاتك منه، وإليها ثم خروجك منها بتكرر السجود كما ذكر الله تعالى لك بقوله: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾.

 

وعند هذا جدد على قلبك عظمة الله تعالى وعلوه وقل: سبحان ربي الأعلى وبحمده وأكده بالتكرار فإن المرة الواحدة ضعيفة الأثر في القلب.

 

فإذا رق قلبك وظهر ذلك فليصدق رجاؤك في رحمة ربك فإن رحمته تتسارع إلى الضعف والذل، لا إلى التكبر والبطر فارفع رأسك مكبراً وسائلاً ومستغفراً من ذنوبك ثم أكد التواضع بالتكرار وعد إلى السجود ثانياً كذلك فبزيادته يزيد القرب منك وبتكراره تنالك السوائح الإلهية وتظهر اللوامع الغيبية إذا وقع على وجهه.

 

قال الصادق (ع): ( ما خسر والله قط من أتى بحقيقة السجود ولو كان في العمر مرة واحدة، وما أفلح من خلا بربه في مثل ذلك الحال شبيهاً بمخادع نفسه غافلاً لاهياً عما أعد الله للساجدين من أنس العاجل وراحة الآجل ولا بعد عن الله أبداً من أحسن تقربه في السجود ولا قرب إليه أبداً من أساء أدبه وضيع حرمته بتعليق قلبه بسواه في حال سجوده.

 

فاسجد سجود متواضع لله ذليل علم أنه خلق من تراب تطأه الخلق، وانه ركب من نطفة يستقذرها كل واحد، وكون ولم يكن وقد جعل الله تعالى معنى السجود سبب التقرب إليه بالقلب والسر والروح فمن قرب منه بعد من غيره.

 

ألا ترى في الظاهر أنه لا يستوى حال السجود إلا بالتواري عن جميع الأشياء والاحتجاب عن كل ما تراه العيون؟

 

كذلك أمر الباطن. فمن كان قلبه متعلقاً في صلاته بشيء من دون الله فهو قريب من ذلك الشيء بعيد عن حقيقة ما أراد الله منه في صلاته.

 

قال الله عزوجل: ﴿ مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾ وقال رسول الله: ( قال الله تعالى: ما اطلع على قلب عبد فأعلم فيه حب الإخلاص لطاعتي لوجهي وابتغاء مرضاتي إلا توليت تقويمه وسياسته ومن اشتغل في صلاته فهو من المستهزئين بنفسه ومكتوب اسمه في ديوان الخاسرين).

 

السابع: في وظائف التشهد وأسراره:

 

التشهد:

إذا جلست للتشهد بعد هذه الأفعال الدقيقة والأسرار العميقة المشتملة على الأخطار والأهوال العظيمة فاستشعر الخوف التام، والرهبة والحياء والوجل، أن يكون جميع ما سلف منك غير واقع على وجهه ولا محصلاً لوظيفته وشرطه، ولا مكتوباً في ديوان المقبولين، فاجعل يدك صفراً من فوائدها إلا أن يتداركك الله برحمته ويقبل عملك الناقص بفضله.

 

وارجع إلى مبدأ الأمر وأصل الدين، واستمسك بكلمة التوحيد وحصن الله تعالى الذي من دخله كان آمناً، إن لم يكن حصل في يدك غيره واشهد له بالواحدينة وأحضر رسوله المكرم ونبيه المعظم ببالك واشهد له بالعبودية والرسالة وصل عليه وعلى آله مجدداً عهد الله تعالى بإعادة كلمتي الشهادة متعرضاً بهما لتأسيس مراتب السعادة، فإنهما أول الوسائل وأساس الفواضل وجماع أمر الفضائل مرتقياً لإجابته (ص) لك بصلاتك عشراً من صلاته إذا قمت بحقيقة صلاتك عليه التي لو وصل إليك منها واحدة أفلحت أبداً.

 

قال الصادق (ع): ( التشهد ثناء على الله تعالى فكن عبداً له في السر خاضعاً له في الفعل كما أنك عبد له بالقول والدعوي وصل صدق بلسانك بصفاء صدق سرك، فإنه خلقك عبداً وأمرك أن تعبده بقلبك ولسانك وجوارحك وأن تحقق عبوديتك له برويته لك وتعلم أن نواصي الخلق بيده فليس لهم نفس ولا لحظة إلا بقدرته ومشيته وهو عاجزون عن إتيان أقل شيء في مملكته إلا بإذنه وإرادته.

 

قال الله عزوجل: ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ فكن لله عبداً شاكراً بالفعل كما أنك عبد ذاكر بالقول والدعوى وصل صدق لسانك بصفاء سرك فإنه خلقك، فعزوجل أن تكون إرادة ومشية لأحد إلا بسابق إرادته ومشيته فاستعمل العبودية في الرضاء بحكمه والعبادة في أداء أوامره.

 

وقد أمرك بالصلاة على نبيه محمد (ص) فأوصل صلاته بصلاته، وطاعته بطاعته، وشهادته بشهادته وانظر أن لا يفوتك بركات معرفة حرمته فتحرم من فائدة صلاته وأمره بالاستغفار لك  والشفاعة فيك إن أتيت بالواجب في الأمر والنهي والسنن والأدب وتعلم جليل مرتبته عند الله عزوجل.

 

الثامن: في وظائف السلام وأسراره:

التسليم:

إذا فرغت من التشهد فأحضر نفسك بحضرة سيد المرسلين والملائكة المقربين وقل: ( السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)، إلى آخر التسليم المستحب... ثم أحضر في بالك النبي (ص) وبقية الأنبياء الله والأئمة (ع) والحفظة لك من الملائكة المقربين المحصين لأعمالك، وقل: ( السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) ولا يطلق لسانك بصيغة الخطاب من غير حضور مخاطب في ذهنك فتكون من العابثين واللاعبين.

 

وكيف تسمع الخطاب لمن لا تقصد، لولا فضل الله تعالى ورحمته الشاملة، ورأفته الكاملة في اجتزائه ذلك من أصل الواجب، وإن كان بعيداً عن درجات القبول منحطاً عن أوج القرب والوصول.

 

وإن كنت إماماً لقوم فاقصدهم بالسلام مع من تقدم من المقصودين وليقصدوا هم الرد عليك أيضاً، ثم ليقصدوا مقصدك بسلام ثان، فإذا فعلتم ذلك فقد أديتم وظيفة السلام، واستحققتم من الله تعالى مزيد الإكرام.

 

وأصل السلام مشترك بين التحية الخاصة وبين الاسم المقدس من أسماء الله تعالى، والمعنى هنا على الأول ظاهر، وعلى الثاني يكون مستعاراً في الخلق بإذن الله للتفاؤل بالسلام والأمان من عذاب الله تعالى لمن قام بحدوده.

 

قال الصادق (ع): ( معنى السلام في دبر كل صلاة الأمان. أي من أدى أمر الله وسنة ونبيه (ص) خاضعاً له خاشعاً منه قلبه، فله الأمان من بلاء الدنيا والبراءة من عذاب الآخرة. والسلام أسم من أسماء الله تعالى أودعه خلقه ليستعملوا معناه في المعاملات والأمانات والإلصاقات وتصديق مصاحبتهم وتؤدي فيما بينهم وصحبة معاشرتهم وإذا أردت أن تضع السلام موضعه وتؤدي معناه، فاتق الله ليسلم منك دينك وقلبك وعقلك لا تدنسها بظلمة المعاصي. ولتسلم حفظتك لا تبرمهم ولا تملهم، وتوحشهم منك بسوء معاملتك معهم، ثم صديقك ثم عدوك فإن من لم يسلم منه وهو أقرب إلية فالأبعد أولى. ومن لا يضع السلام بمواضعه هذه فلا سلام ولا تسليم وكان كاذباً في سلامه وإن أفشاه في الخلق).

 

تتمة الفصل:

 

إذا أتيت بالصلاة على ما وصفت لك، فاختمها بالخشوع والخضوع، والخوف من منقلب الرد وخيبة الحرمان. واستشعر شكر الله تعالى على توفيقه لإتمام هذه الطاعة، وتوهم أنك مودع في صلاتك هذه، وإنك ربما لا تعيش بمثلها كما قال (ص):(صل صلاة مودع) ثم استشعر بقلبك الحياء من التقصير في الصلاة والخوف من أن تلف فبضرب بها وجهك فإذا فعلت ذلك رجوت أن تكون من الخاشعين ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾و﴿ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ﴾. واعرض صلاتك على هذا الوصف. فبقدر ما يتيسر منها كذلك ينبغي أن تفرح وترجو، وعلى ما يفوتك ينبغي أن تتحسر وتجتهد في مداواة قلبك فإن صلاة الغافل مربع إبليس اللعين نسأل الله أن يغمرنا برحمته، ويتغمدنا بمغفرته ولا وسيلة لنا إلا الاعتراف بالعجز عن القيام بوظائف طاعته.

 

v     في وظائف المصلي عقيب الصلاة

 

ثم عقب ذلك كله بالاشتغال بالتعقيب من الذكر والدعاء، وبالغ في الإخلاص والانقطاع والابتهال إلى الله تعالى في مغفرة ذنبك وقبول عملك وتلقي طاعتك بيد الرحمة فإن الفضل عميم والكرم جسيم والرحمة واسعة والجود فائض والمحل قابل.

 

وخلاصة وظائف الدعاء عقيب الصلاة وغيرها ما قاله مولانا الصادق (ع): (أحفظ أدب الدعاء وأنظر من تدعو وكيف تدعو ولما تدعو وحقق عظمة الله تعالى وكبرياءه وعاين بقلبك علمه بما في ضميرك واطلاعه على سرك وما يكن فيه من الحق والباطل واعرف طرق نجاتك وهلاكك كي لا تدعو الله تعالى بشيء عسى فيه هلاكك وأنت تظن أن فيه نجاتك).

 

قال الله تعالى: ﴿ َيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً﴾ وتفكر ماذا تسأل والدعاء استجابة الكل منك للحق وتذويب المهجة في مشاهدة الرب، وترك الاختيار جمعياً وتسليم الأمور كلها- ظاهرها وباطنها- إلى الله تعالى فإن لم تأت بشرط الدعاء فلا تنتظر الإجابة ﴿ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ فعلك تدعوه بشيء قد علم من نيتك بخلاف ذلك.

 

قال بعض الصحابة لبعضهم: ( أنتم نتنظرون المطر بالدعاء وأنا أنتظر الحجر).

 

وأعلم أنه لو لم يكن الله أمرنا بالدعاء لكنا إذا أخلصنا الدعاء تفضل علينا بالإجابة فكيف وقد ضمن ذلك لمن أتى بشرائط الدعاء.

 

وسئل رسول الله (ص) عن اسم الله الأعظم فقال: (كل اسم من أسماء الله أعظم ففرغ قلبك عن كل من سواه وادعه بأي اسم شئت فليس في الحقيقة لله اسم دون اسم بل هو الله الواحد القهار).

 

وقال النبي (ص): (إن الله لا يستجيب الدعاء من قلب لاهﹴ...).

 

فإذا أتيت بما ذكرت لك من شرائط الدعاء وأخلصت سرك لوجهه فابشر بإحدى ثلاث إما أن يعجل لك ما سألت وإما أن يدخر لك ما هو أعظم منه، وإما أن يصرف عنك من البلاء ما لو أرسله عليك لهلكت.

 

قال النبي (ص): (قال الله تعالى: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين).

 

قال الصادق (ع): ( لقد دعوت الله تعالى مرة واحدة فاستجاب لي ونسيت الحاجة لأن استجابته بإقباله على عبده عند دعوته، أعظم واجل مما يريد منه العبد ول كانت الجنة ونعيمها الأبد ولكن لا يعقل ذلك إلا العاملون المحبون العارفون الفائزون صفوة الله وخواصه، انتهى) هو كاف في وظيفة الدعاء.

 

وإن عقبت بشيء من القرآن فينبغي أن نتدبر بعض وظائفه لتقوم بشروطه وتتمثل برسوم حدوده كما ينبغي ذلك لكل قارئ وما ورد في ثواب قراءة القرآن والحث عليه يخرج عن موضع الرسالة فلنذكر مهم وظائفه ملخصاً وهو أمور:

 

v     في وظائف القارئ عند القراءة

الأول: حضور القلب وترك حديث النفس.

 

قيل في تفسير قوله تعالى: ﴿يا يحيى خذ الكتاب بقوة﴾ أي: بجد واجتهاد وأخذه بالجد أن يتجرد عند قراءته بحذف جميع المشغلات والهموم عنه.

 

الثاني: التدبر وهو طور وراء حضور القلب فإن الإنسان قد لا يتفكر في غير القرآن على سماع القرآن وهو لا يتدبر والمقصود من التلاوة والتدبر.

 

قال سبحانه: ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً﴾، وقال تعالى﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً﴾. لأن الترتيل يمكن الإنسان من تدبر الباطن. قال (ص): ( لا خير في عبادة لا فقه فيها، ولا خير في قراءة لا تدبر فيها).

 

الثالث: التفهم وهو أن يستوضح من كل آية ما يليق بها إذ القرآن يشتمل على ذكر صفات الله تعالى وأفعاله وأحوال أنبيائه والمكذبين لهم، وأحوال ملائكته وذكر أوامره وزواجره، وذكر الجنة والنار والوعد والوعيد فليتأمل معاني هذه الأسماء والصفات لينكشف له أسرارها فإن تحتها أسرار الدقائق وكنوز الحقائق.

 

قال ابن مسعود: ( من أردا ان يعلم علم الأولين والآخرين فعليه بالقرآن).

 

قال الله تعالى: ﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً﴾. إلخ

 

وقال علي (ع): ( لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً من تفسير فاتحة الكتاب).

 

فمن لم يتفهم معاني القرآن في تلاوته وسماعه ولو في أذني المراتب ودخل في قوله تعالى:﴿أُولَـئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾، وقوله:﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾.

 

الرابع: التخلي عن موانع الفهم: فإن أكثر الناس منعوا عن فهم القرآن لأستار وحجب أسدلها الشيطان على قلوبهم فحجبت عن عجائب أسراره قال (ص): ( لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت) ومعاني القرآن وأسراره من جملة الملكوت.

 

والحجب الموانع منها: الاشتغال بتحقيق الحروف، وإخراجها من مخارجها والتشدق بها من غير ملاحظة المعنى وقيل أن المتولي لحفظ ذلك شيطان وكل بالقراء ليصرفهم عن معنى كلام الله تعالى، فلا يزال يحملهم على ترديد الحرف ويخيل إليهم انه لم يخرج من مخرجه فيكون تأمله مقصوراُ على مخارج الحروف فأنى تنكشف له المعاني؟

 

وأعظم ضحكة للشيطان من كان مطيعاُ مثل هذا التلبيس.

 

ومنها: أن يكون مبتلى من الدنيا بهوى مطاع فإن ذلك سبب لظلمة القلب كالصدا على المرآة فيمنع جلية الحق أن يتجلى فيه، وهو أعظم حجاب للقلب، وبه حجب الأكثرون. وكلما كانت الشهوات أكثر تراكماً على القلب، كان البعد عن أسرار الله تعالى أعظم.

 

ولذلك قال (ص): ( الدنيا والآخرة ضرتان بقدر ما يقترب من إحداهما يبتعد عن الأخرى).

 

الخامس: أن يخصص نفسه بكل خطاب من القرآن من أمر أو نهي أو وعد أو وعيد أنه هو المقصود.

 

وكذلك إن سمع قصص الأولين والأنبياء عليهم السلام علم أن مجرد القصة غير المقصود الاعتبار ولا يعتقد أن كل خطاب خاص في القرآن المراد به الخصوص فإن القرآن وساير الخطابات الشرعية واردة على طريقة (إياك أعني واسمعي يا جارة) وهي كلها نور، وهدى، ورحمة للعالمين.

 

ولذلك أمر الله تعالى الكافة بشكر نعمة الكتاب فقال:﴿ َاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ﴾ إذا قدر أنه المقصود لم يتخذ دراسة القرآن عملاً، بل قراءته كقراءة العبد كتاب مولاه الذي كتبه إليه ليتدبره ويعمل بمقتضاه.

 

وقال حكيم: ( هذا القرآن أتانا من قبل ربنا بعهوده نتدبرها في الصلاة ونقف عليها في الخلوات، ونعدها في الطاعات بالسنن المتبعات).

 

السادس: التأثر وهو أن يتأثر قلبه بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات فيكون له بحسب كل فهم حال ووجد يتصف به عندما يوجه نفسه في كل حالة إلى الجهة التي فهمها: من خوف أو حزن أو رجاء أو غيره فيستعد لذلك وينفعل ويحصل له التأثر والخشية ومهما قويت معرفته فكانت الخشية أغلب الأحوال على قلبه.

 

إن التقصير غالب على العارفين فلا يرى ذكر المغفرة والرحمة إلا مقروناً بشروط العارف على نيلها كقوله تعالى:﴿ َإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى﴾ فإنه قرن المغفرة بهذه الشرط الأربعة.

 

وكذلك قوله تعالى:﴿ وَالْعَصْرِ** إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ إلى آخر السورة وذكر فيه أربعة شروط.

 

وحيث أوجز واختصر ذكر شرطاً واحداً لكل الشرايط فقال تعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ إذ كان الإحسان جامعاً لكل الشرايط.

 

وتأثر العبد بالتلاوة أن يصير بصفة الآية المتلوة. فعند الوعيد يتضاءل من خشية الله وعند الوعد يستبشر فرحاً بالله، وعند ذكر الله وأسمائه يتطأطأ خضوعاُ لجلاله، وعند ذكر الكفار في حق الله تعالى، ما يمتنع عليه، كالصاحبة والولد، يغض صوته وينكسر في باطنه حياء من قبح أفعالهم ويكبر الله ويقدسه عما يقول الظالمون وعند ذكر الجنة ينبعث بباطنه شوق إليها وعند ذكر النار ترتعد فرائصه خوفاً منها. ولما قال رسول الله لأبن مسعود: ( إقرأ علي).

قال: ( فافتتحت سورة النساء، فلما بلغت ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيدا﴾ رأيت عينيه تذرفان بالدمع فقال لي: (حسبك الآن).

 

وذلك لاستغراق تلك الحالة لقلبه بالكلية.

والقرآن إنما يراد لهذه الأحوال واستجلابها إلى القلب والعمل بها.

 

قال رسول الله (ص): ( إقرأوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم ولانت له جلودكم فإذا اختلفتم فلستم تقرؤونه).

 

وقال الله تعالى: ﴿نَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً﴾ وإلا فالمؤونة في تحريك اللسان خفيفة.

 

وروي أن رجلاً جاء إلى النبي ليعلمه القرآن فعلمه فانتهى إلى قوله تعالى:﴿ َمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ﴾ فقال يكفني هذا وانصرف.

 

فقال رسول الله: ( انصرف الرجل وهو فقيه)ز

 

وأما التالي باللسان المعرض عن العمل بالقلب، فجديراً أن يكون المراد يقوله تعالى:﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ الآية.

 

وإنما حظ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل وحظ العقل تفسير المعاني وحظ القلب الاتعاظ والتأثر بالإنزجار والإيتمار.

 

السابع: الترقي: وهو أن يوجه قلبه وعقله إلى القبلة الحقيقة فيسمع الكلام من الله تعالى لا من نفسه.

 

ودرجات القراءة ثلاث، أدناها أن يقدر العبد كأنه يقرأ على الله تعالى، واقفاًُ بين يديه، وهو ناظر إليه ومستمع منه فيكون حاله عند هذا التقدير السؤال والتضرع والابتهال.

 

والثانية: أن يشهد بقلبه كأنه سبحانه يخاطبه بألطافه ويناجيه بإنعامه وإحسانه وهو في مقام الحياء والتعظيم لمنن الله والإصغاء إليه والفهم منه.

 

الثالثة: أن يرى في الكلام المتكلم وفي الكلمات الصفات، فلا ينظر إلى قلبه ولا إلى قراءته إلى التعلق بالأنعام من حيث هو منعم عليه، بل يقصر الهم على المتكلم ويقف فكره عليه ويستغرق مشاهدته وهذه درجة المقربين.

 

ومنها أخبر جعفر بن محمد الصادق(ع) بقوله: (لقد تجلى الله لخلقه في كلامه ولكنهم لا يبصرون) وقال أيضاً وقد سألوه عن حال لحقته في الصلاة حتى خر مغشياً عليه، فلما أفاق قيل له في ذلك فقال: ( ما زلت أردد هذه الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلم بها فلم يثبت جسمي بمعاينة قدرته).

 

الثامن: التبري: والمراد به أن يتبرأ من حوله وقوته فلا يلتفت إلى نفسه بعين الرضا والتزكية.

 

فإذا تلا آيات الوعد ومدح الصالحين، حذف نفسه عن درجة الاعتبار وشهد فيها الموقنين والصديقين ويتشوق إلى أن يلحقه الله بهم.

 

وإذا تلا آيات المقت والذم للمقصرين شهد نفسه هناك وقدر أنه المخاطب خوفاً وإشفاقاً وإلى هذه المرتبة أشار أمير المؤمنين (ع) وسيد الوصيين (ع) في الخطبة التي يصف فيها المتقين بقوله: ( وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنوا أن زفير جهنم في آذانهم) إلخ.

 

 ومن رأى نفسه بصورة التقصير في القراءة كان ذلك سبب قوربه.

 

ومن شاهد نفسه بعين الرضا فهو محجوب بنفسه.

 

فهذه نبذة من وظائف القراءة وأسرارها وفقنا الله لتلقي الأسرار وألحقنا بعبادة الأبرار.

 

v     في وظائف سجدة الشكر

وإذا وصلت إلى هذا المقام فاسجد سجدتي الشكر شكراً لله سبحانه على مزيد الأنعام وأحضر إنعامه لديك ببالك، وأياديه عندك في جميع أحوالك، وقل شكراً شكراً إلى تمام ما يمكنك من المزي، فأنت مع ذلك مقصر عما يجب عليك من التحميد وغاية ما يجب الاعتراف بالتقصير، والاستغفار من كل قليل وكثير.

 

اللهم ارزقنا العمل بما كشفت لنا من أسرار الآيات، وزدنا فيضاً وعرفاناً يكونا لنا سلماً إلى نيل تلك الدرجات، ووفقنا لدرك الحق بالتوفيق وثبت أقدامنا على مقامات الصدق وحقائق التحقيق بفضلك وجودك العميم إنك أنت الوهاب الكريم.