منافيات الصلاة
 
الفصل الثالث

 

في ما يبطل الصلاة وينافيها

في المنافيات:

 

وهي في هذا المقام ما أبطلت الصلاة أو نقصت كمالها من جهات قلبية. وهي تنقسم إلى منافيات الكمال وإلى منافيات الصحة.

 

وضابط الأول ما ينافي الإقبال بالقلب على الله تعالى من حديث النفس، والالتفات إلى أمر دنيوي بل الفكر في غير متعلق الصلاة وإن كان أخروياً فإنه من دقائق مكائد الشيطان فإن المطلوب لله تعالى والموجب للقبول إنما هوا لإقبال على كل فعل من أفعالها حال الاشتغال فيه كما نبه عليه بقوله (ص): ( وإنما لك من صلاتك ما أقبلت عليه بقلبك).

 

ويدخل في القسم ما عده الفقهاء من المكروهات كمدافعة الأخبثين والنعاس والتنخم والبصاق والعبث وغيرها فإنها مشتركة في مضادة الإقبال ومنافية للخشوع.

 

وأما منافيات الصحة فضابطها منافاة الإخلاص واستكثار الطاعة، ويدخل في الأول: الرياء بأقسامه، وفي الثاني العجب والكلام في كل منهما مستوفى وذكر أقسامهما وأحكامهما يخرج عن وضع الرسالة، لكننا نذكر المهم.

 

واعلم أن الوعيد على هاتين الآفتين في الكتاب والسنة كثير يخرج عن حد الحصر، قال الله تعالى:﴿ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ** الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ** الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ** وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾.

 

وقال النبي(ص): ( إن النار وأهلها يعجون من أهل الرياء) فقيل: (يا رسول الله وكيف تعج النار؟) قال: ( من حر النار التي يعذبون فيها).

 

وعنه (ص) قال: ( المرائي يوم القيامة ينادى بأربعة أسماءك يا كافر يا فاجر يا غادر يا خاسر، ضل سعيك وبطل أجرك ولا خلاق لك، التمس الأجر ممن كنت تعمل له يا مخادع).

 

وعنه (ص): ( إن الله تعالى يقول: أنا أغنى الأغنياء عن الشرك من عمل عملاً فأشرك فيه غيري فنصبي له فأنا لا أقبل إلا ما كان خالصاً لي).

 

وعنه (ص): ( إن الجنة تكلمت وقالت إني حرام على كل بخيل ومراء).

 

وعنه (ص): ( إن أول من يدعى القيامة رجل جمع القرآن ورجل قتل في سبيل الله ورجل كثير المال فيقول الله عزوجل للقارئ: ( ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟)

 

فيقول: ( بلى يا رب).

 

فيقول: ( ما علمت في ما علمت؟).

 

فيقول: ( يا رب قمت به في آناء الليل وأطراف النهار).

 

فيقول الله: (كذبت) وتقول الملائكة: ( كذبت) ويقول الله تعالى: ( إنما أردت أن يقال فلان قارئ فقد قيل ذلك).

 

ويؤتى بصاحب المال فيقول الله تعالى: ( ألم أوسع عليك حتى لم أدعك محتاجاً إلى أحد؟..)

 

فيقول: ( بلى يا رب).

 

فيقول: (فما عملت في ما آتيتك).

 

قال: ( كنت أصل الرحم وأتصدق).

 

فيقول الله تعالى: ( كذبت) وتقول الملائكة: ( كذبت) ويقول الله تعالى: ( بل أردت أن يقال فلان جواد وقد قيل ذلك).

 

ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله تعالى: ( ما فعلت؟).

 

فيقول: ( أمرت بالجهاد في سبيل الله فقاتلت حتى قتلت).

 

فيقول تعالى: ( كذبت) وتقول الملائكة: ( كذبت) ويقول الله تعالى: ( بل  أردت ان يقال شجاع جزئ فقد قيل ذلك).

 

ثم قال رسول الله: ( أولئك خلق الله تسعر بهم نار جهنم).

 

وعن الصادق عليه السلام: ( إياك والرياء فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى من عمل له).

 

وعنه عليه السلام في قول الله عز وجل :﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾.

 

قال: ( الرجل يعمل شيئاً من الثواب لا يطلب به وجه الله إنما يطلب تزكية النفس يشتهي أن يسمع به الناس فهذا الذي أشرك بعبادة ربه).

 

ثم قال: ( ما من عبد أسر خيراً فذهبت الأيام حتى يظهر الله له خيراً وما عبد أسر شراً فذهبت الأيام حتى يظهر له شراً)

 

والأثر في ذلك يطول.

 

وقال الله تعالى في ذم العجب: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ ﴾

 

وذكر ذلك في معرض الإنكار.

وقال تعالى: ﴿َهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾ وهو أيضاً راجع إلى العجب بالعمل على وجه.

 

وقال النبي (ص): ( ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه).

 

وقال الصادق عليه السلام: ( للعجب درجات: منها أن يزين للعبد سوء عمله فيراه حسناًُ فيعجبه، ويحسب أنه يحسن صنيعاً).

 

وعنه (ع) قال: ( أتى عالم عابداً فقال له: ( كيف صلاتك) قال: ( مثلي يسأل عن صلاته وأنا أعبد الله منه كذا وكذا؟) قال:(وكيف بكاؤك؟) قال: ( أبكي حتى تجري دموعي) فقال له العالم: ( فإن ضحكك وأنت خائف، خير من بكائك وأنت مدل، إن المدل لا يصعد من علمه شيء).

 

وعن احدهما (ع) قال: ( دخل المسجد رجلان: أحدهما عابد والآخر فاسق، فخرجا من المسجد والفاسق صدّيق والعابد فاسق).

 

وذلك أن يدخل المسجد العبد مدلاً بعبادته فيدل بها فتكون فكرته في ذلك ويكون فكرة الفاسق في الندم على فسقه ويستغفر الله عز وجل مما صنع من الذنوب.

 

وقال النبي (ص): ( قال الله تعالى لداوود: ( يا داوود بشر المذنبين وانذر الصديقين).

 

قال: ( كيف أبشر المذنبين وأنذر الصديقين) قال: ( يا داوود بشر المذنبين إني أقبل التوبة وأعفو عن الذنب وانذر الصديقين أن لا يعجبوا بأعمالهم فإنه ليس عبد يعجب بالحسنات إلا هلك).

 

والعم أن الرياء على ضربين: رياء محض ورياء مختلط.

 

فالمحض: أن يريد بعمله نفع الدنيا وهو أعم من أن يتوصل به إلى محرم أو مباح أو ليحذر من أن ينظر إليه بعين النقص ولا يعد من الخاصة.

 

والمختلط: أن يقصد به ذلك مع التقرب إلى الله تعالى ولاكهما مفسد للعمل بل الأول ساقط عن درجة البحث والاعتبار.

 

والثاني هو الإشراك بالله تعالى في العبادة التي قد تقدم أنه يتركها لشريكه وهذا هو الشرك الخفي في هذه الأمة الذي أشار إليه النبي (ص) بأنه في أمته فاش.

 

ثم المقصود هنا ليس هو البحث عن الفعل الذي يقع ابتداء رياء لأن ذلك باطل في نفسه ولا يعرض لقلوب العارفين وإنما الكلام هنا فيما يبتدئ الإنسان به من العبادة خالصاً لله تعالى لا يريد به غيره، ثم يعرض له ما ينافي الإخلاص على وجه الشوب اللطيف الذي ينبغي التنبيه عليه في مثل هذا المقام وهو يأتي على وجوه، بعضها خفي وبعضها جلي.

 

أحدها: أن يعقد الصلاة مثلاً على الإخلاص المحض والطاعة والإقبال على الله تعالى بها وهو خال من نظر الناس غليه، فيدخل عليه داخل أو ينظر إليه ناظر فيقول له الشيطان: ( زد صلاتك حسناً حتى ينظر إليك هذا الحاضر بعين الوقار والصلاح ولا يزدريك ولا يغتابك).

 

فتخشع جوارحه وتسكن أطرافه ويحسن صلاته وهذا هو الرياء الطارئ الظاهر، الذي لا يخفى على المبتدئين من المريدين، ولكنه في الجملة من شوائب القرب ومنافي الإخلاص.

 

وثانيها: أن يكون قد فهم من هذه الآفة وأخذ منها حذره، فصار لا يطيع الشيطان فيها ولا يلتفت إليه، ويستمر في صلاته كما كان فيأتيه في معرض الخير ويقول: أنت متبوع ومقتدى بك، ومنظور إليك وما تفعله يؤثر عنك ويتأسى فيه بك غيرك، فيكون لك ثواب أعمالهم إن أحسنت، وعليك الوزر إن أسأت فأحسن عملك، فعساه أن يقتدى بك في الخشوع وتحسين العبادة فتكون شريك من اقتدى بك وهلك جزاء للحديث المشهور: (إن من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من يعمل بها إلى يوم القيامة).

 

وهذه المكيدة أعظم من الأولى وأدق، وقد ينخدع بها من لا ينخدع بالأولى وهو أيضاً عين الرياء ومبطل إخلاص فإنه إذا كان يرى الخشوع وحسن العبادة خيراً لا يرتضي لغيره تركه، فلم لم يرتضي لنفسه ذلك في الخلوة؟

 

ولا يمكن أن يكون غيره أعز عليه من نفسه.

 

فهذا عين التلبيس بل المقتدى به هو الذي استقام في نفسه واستنار قلبه فانتشر نوره إلى غيره، فيكون له الثواب عليه.

 

وأما فعل الأول فمحض النفاق والتلبيس فيطلب يوم القيامة بتلبيسه ويعاقب على إظهاره من نفسه ما ليس متصفاً به وإن أثيب المقتدى به.

 

وثالثها: وهو أدق مما قبلها أن ينتبه العبد لذلك، وإنه مكيدة من الشيطان ويعلم أن مخالفته بين الخلوة والمشاهدة للغير محض الرياء ويعلم أن الإخلاص في أن تكون صلاته في الخلوة مثل صلاته في الملأ ويستحي من نفسه وربه، أن يخشع لمشاهدة خلقه، تخشعاً زائداً على عبادته فيقبل على نفسه في الخلاء ويحسن صلاته على الوجه الذي يرتضيها في الملأ، ويصلي أيضاً في الملأ كذلك، للعلة المذكورة وهذا أيضاً من الرياء الغامض لأنه حسن صلاته في الخلوة لتحسن في الملأ فلا يكون قد فرق بينهما فالتفاته في الخلاء والملأ إلى الخلق بل الإخلاص أن يكون مشاهدة البهائم لصلاته ومشاهدة الخلق على وتيرة واحدة.

 

فكأن نفس صاحب هذه الخطرة ليست تمسح بإساءة الصلاة بين الناس ثم يستحي من نفسه أن يكون في صورة المرائين ويظن بأن ذلك يزول بأن يستوي في صلاته في الخلاء والملأ. هيهات!... بل زوال ذلك بأن لا يلتفت إلى الخلق كما لا يلتفت إلى الجمادات والبهائم في الخلاء والملأ جمعياً وهذا شخص مشغول الهم بالخلق في الخلاء والملأ جمعياً وهذا من المكائد الخفية.

 

وإلى هذه الإشارة في الحديث النبوي: ( لا يكمل إيمان العبد حتى يكون الناس عنده بمنزلة الأباعر).

 

ورابعها: وهو أدق وأخفى أن ينظر إليه الناس وهو في صلاته فيعجز الشيطان عن أن يقول له: ( اخشع لأجلهم) فإنه قد عرف أنه لا يصلي لذلك فيقول الشيطان: تفكر في عظمة الله وجلاله، ومن أنت واقف بين يدي واستحي أن ينظر الله إلى قلبك وأنت غافل عنه ، فيحضر بذلك قلبه ويجمع جوارحه ويظن إن ذلك عين الإخلاص وهو عين المكر والخداع فإن خشوعه لو كان لنظره إلى جلال الله وعظمته لكانت هذه الخطرة تلازمه في الخلوة ولكان لا يختص حضورها بحالة حضور غيره وعلامة الأمن من هذه الآفة أن يكون هذا الخاطر مما يألفه في الخلوة كما يألفه في الملأ ولا يكون حضور الغير هو السبب في حضور الخاطر كما لا يكون حضور البهيمة سبباً.

 

فما دام تفرق في أحواله بين مشاهدة الإنسان ومشاهدة البهيمة فهو بعد خارج عن صفوة الإخلاص مدنس الباطن بالشرك الخفي من الرياء وهذا الشرك أخفى في قلب ابن آدم( من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء) كما ورد في الخبر.

 

ولا يسلم من الشيطان إلا من دق نظره وسعد بتوفيق الله تعالى وهدايه وإلا فالشيطان ملازم للمتشمرين لعبادة الله تعالى، لا يغفل عنهم لحظة حتى يحملهم على المهالك في كل حركة من الحركات حتى في كحل العين، وقص الشارب وطيب يوم الجمعة ولبس الثياب الفاخرة فإن هذه سنن في أوقات مخصوصة لكن للنفس فيها حظاً خفياً لارتباط نظر الخلق بهما.

 

فيدخل الشيطان عليه من هذه المداخل إن لم يتيقظ. ولهذا قيل ( ركعتان من عالم أفضل من عبادة سنة جاهل) وأريد به العالم البصير بدقائق آفات العبادة حتى يخلص عنها لا مطلق العالم. فإن مداخل الشيطان على كثير من العلماء أعظم من مداخله على الجهلاء.

 

وخامسها: أن يكمل العبادة على الإخلاص المحض والنية الصالحة لكن عرض له بعد الفراغ منها حب إظهارها ليحصل له بعض الأغراض المحققة للرياء خديعة من الشيطان له أنه قد كمل العبادة الخالصة وقد كتبها الله تعالى في ديوان المخلصين فلا يقدح فيها ما يتجدد وإنما ينضم إلى ما حصله بها من خير الآجل خير آخر عاجل. العجب المتأخر ويدخل في زمرة الذين قال الله تعالى عنهم: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً** الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾.

 

وقد روي أن رجلاً قال للنبي (ص): ( صمت الدهر يا رسول الله) فقال له: ( ما صمت ولا أفطرت).

 

وروي عن ابن مسعود أنه يقول: ( قرأت البارحة البقرة) قال: (ذلك حظه) بل لو كنت باقياً على إخلاصك فقد نقصت منه تسعة وستين جزءاً من سبعين جزءاً على ما روي عنهم (ع): (إن فضل عمل السر على عمل الجهر سبعون ضعفاً).

 

وعن الصادق (ع): ( من عمل حسنة سراً كتبت له سراً فإذا قرأ بها محيت وكتبت جهراً فإذا أقر بها ثانية محيت وكتبت رياء).

 

فيا لها من كلمة ما أشأمها، ورزية ما أعظمها حيث نقص بها حظك وضاع كدحك وليتك سلمت من تبعتها فإن المرائي لا يسلم ، كما قد عرفت من وعيده وهذا كله مع عدم تعلق غرض صحيح في الآخرة بإذاعته وأما حضه كما لو أراد بذلك تنشيط السامع مع وثوقه بنفسه فلا حرج فيه إذا لم يمكن تنشيطه بدونه، وإلا كان أولى.

 

وقد روى محمد بن مسلم عن الباقر (ع) قال: ( لا بأس أن تحث أخاك إذا رجوت أن تنفعه وتحثه، وإذا سألك: ( هل قمت الليلة أو صمت؟) فحدثه بذلك إن كنت فعلته، فقل قدر رزق الله ذلك ولا تقل لا فإن ذلك كذب).

 

ومن هنا جاء أفضلية الصدقة جهراً ليتأسى به، والإجهار بصلاة الليل زيادة على غيرها ليتنبه أهله وجيرانه فيتأسوا به ولكن ذلك كله موضع الخطر فيجب الاحتراز والتيقظ بمراعاة القلب وكما يكون الإظهار مظنة الرياء وخطرته، كذلك الإخفاء فإن فيه أيضاً للشيطان مداخل منها:

 

أن يأمره بترك العمل خوفاً من أن يكون مرائياً به وهذا من جملة خدايعه وفي ترك العمل زوال تحصيل لغرضه، لأن غرضه الأقصى ترك العمل.

 

وإنما يعدل بك إلى قصد الرياء وغيره عند معجزه عن تثبيطك عن العمل، وتزهيدك فيه فإذا تركته فقد حصلت غرضه ومثالك في ذلك مثال من سلم إليه مولاه حنطة فيها تراب فقال له خلصها من التراب، ونقها منه تنقيه بالغة فيترك أصل العمل ويقول أخاف إن اشتغلت به لم يخلص خلاصاً صافياً فيترك العمل من أصله.

 

وهذا تمام الغرض لإبليس اللعين وغاية القصد فقد حصلت أمنيته وأرحته من التعب بك في إفساد العمل وإنما سبيلك أن تجتهد في تخليص عملك بالأدوية النافعة، وتحصيل أمر مولاك.

 

ومنها: أن يأمره بترك العمل أيضاً لا لذلك بل خوفاً على الناس أن يولوا أنه مراء فيعصون الله به وهذا أيضاً مع ما قبله رياء خفي من مكائد الشيطان لأن ترك العمل خوفاً من قولهم إنه مراء عين الرياء، ولولا حبه لمحمدتهم وخوفه من ذمهم فما له ولقولهم قالوا أنه مراء أو قالوا أنه مخلص؟

 

وأي فرق بين أن يترك العمل خوفاً من أن يقال أنه مراء وبين أن يحسن العمل خوفاً من أن يقال أنه غافل مقصر؟ بل ترك العمل أشد من ذلك وفيه من ذلك إساءة الظن بالمسلمين، وما كان من حقه أن يظن بهم ذلك.

 

ثم كيف تطمع أن تتخلص من الشيطان بترك العمل وقد أطعته فيه؟ فإنه لا يخليك أيضاً بل يقول لك: (لأن تقول الناس أنك تركت العمل ليقال أنك مخلص لا تشتهي الشهرة) إلى غير ذلك من اللعب بك، وإنما خلاصك من ذلك كله أن تلزم معرفة آفات الرياء وضرره، لتلزم كراهته، وتشمر مع ذلك على العمل ولا تبالي وتلزم قلبك الحياء من الله تعالى أيضاً إذ دعتك نفسك إلى أن تستبدل بحمد الله تعالى حمد المخلوقين وهو مطلع على قلبك ولو أطلع الخلق على قلبك وأنك تريد حمدهم لمقتوك بل إن قدرت على أن تزيد في العمل حياء من ربك وعقوبة لنفسك فافعل.

 

وتشهر به أحب العباد إلى الله تعالى الأتقياء الأخفياء الذين إذا شهدوا لم يعرفوا فإذا عرفا بين الناس بالعبادة لم يكن لك حظ من هذا الوصف.

 

وهذه أيضاً من مكائد وما عليك إذا أخلصت العمل لله أن تعرف به أو تجهل، وإنما عليك مراعاة قلبك وإصلاح سرك وكيف تخفى على الناس إذا كنت صالحاً وهو تعالى يقول: ( عليك إخفاؤه وعلى إظهاره) ويقول: ( من أصلح سريرته أصلح الله علانيته).

 

وإياك أن يغرك اللعين عند ذلك، ويقول إذا كنت لا تترك العمل لذلك فاخف العمل فإن الله تعالى سيظهره عليك وأما إذا أظهرته فيمكن أن تقع في الرياء.

 

وهذا التلبيس عين الرياء لأن إخفاءك له كي يظهر عليك بين الناس هو بعينه العمل لأجل الناس وما عليك إذا كان مرضياً لله تعالى أن يظهر أو يخفى لولا نظرك إلى رضاء الناس إذا تقرر ذلك فإياك أن تحملك دقائق الإخلاص وصعوبة الخلاص على الكسل والقعود عن الطاعات نظراً إلى ما يحدث في نفسك من السرور بالطاعة وزيادة الابتهاج باطلاع الناس عليك بفعل العبادة بل اجتهد في قلع مادة الفساد ومجاري الشيطان عنك، وأعمل.

 

 وأما سرورك بالطاعة فإن منه محموداً ومنه مذموماً فالمحمود أن يكون من قصدك وداعيتك إخفاء الطاعة والإخلاص لله سبحانه ولست مستكثراً لعملك وأما سرورك في أن وفقك الله للعمل وأخرجك من ربقة البطالين والغافلين ولم تبلغ بالسرور حد العجب الآتي ذكره وإذا حصل اطلاع الناس عليه فلم يحصل من قبلك وإنما سررت باطلاعهم نظراً إلى أن الله هو الذي أطلعهم عليه، وأظهر له الجميل تكرماً عليك وتفضلاً ونحو ذلك.

 

والمذموم أن تفرح به استكثاراً وركوناً إليه وبظهور الناس عليه، لقيام منزلتك عندهم ليمدحوك ويقوموا بقضاء  أنك تريد حمدعهم أأأكطقهخلجقنثحخنحوائجك ويقابلوك بالإكرام ونحو ذلك فإنه رياء محض ومحبط للعمل وأصله حب الدنيا ونسيان الآخرة وقلة التفكر في ما عند الله.

 

نسأل الله من فضله أن لا يعاملنا بل يسامحنا بعفوه ويستر زلاتنا بصفحه أنه جواد كريمز

 

في العجب وأقسامه:

 

وأما العجب فهو استعظام العمل والابتهاج به والإدلال به وأن يرى العامل نفسه خارجة بسببه عن حد التقصير وهذا من أعظم المهلكات بل الناقل للعمل من كفة الحسنات إلى كفة السيئات ومن رفيع الدرجات إلى أسفل الدركات، كما تقدم في الأخبار ولذلك قال عيسى (ع): ( يا معشر الحواريين كم من سراج قد أطفأه الريح وكم من عابد أفسده العجب).

 

وروى سعد بن أبي خلف عن الصادق (ع) قال:  ( عليك بالجد ولا تخرجن نفسك عن حد التقصير في عبادة الله وطاعته فإن الله لا يعبد حق عبادته).

 

ومنشأ العجب الغفلة عن عيوب الأعمال وآفات العبادات وعن نعم الله على العاملين من الخلق والأقدار والألطاف والتسخير وغير ذلك.

 

أنظر إلى الأقرب إليك في هذا المقام وهو الصلاة التي هي عمود الدين، وأول ما ينظر فيه من أعمال ابن آدم فإن ردت رد ساير عمله وتأمل حدودهاوهذههذهذههبلنننممتانتاتا التي قد حكيناها مستندة إلى النصوص الصحيحة فلا يكاد يسلم لك صلاة واحدة كاملة تثق من نفسك بقبول الله إياها وهلم جراً إلى غيرها من العبادات فلكل واحد وظائف وحدود لا تبلغها أعمالنا ولا نقوم بها لغفلتنا وقد قال علي (ع): اعملوا عباد الله، إن المؤمن لا يصبح ولا يمسي إلا ونفسه ظنون عنده فلا يزال زارياً عليها ومستزيداً لها فكونوا كالسابقين قبلكم والماضين أمامكم ففوضوا من الدنيا تفويض الراحل واطووها طي المنازل).

 

فكيف يعجب الإنسان بعمله ويعده قائما بحقوق العبودية ووظائف الخدمة لولا استيلاء الغفلة؟ نعم لا يقدح نظر المؤمن إلى نفسه وسروره بما يفعله من العبادة مع حمد الله تعالى على توفيقه لها وطلب الاستزادة من فضله فقد قال أمير المؤمنين (ع): ( من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن).

 

وقال (ع): ( ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فإن عمل خيراً حمد الله واستزاده، وإن عمل شراً استغفر الله تعالى).

 

فهذا ما اقتضى الحال ذكره من المنافيات ملخصاً ليوافق الغرض فإن ذكره هنا بالعرض والله الموفق.